الذي نجمه البرد لو يكون في الحمام

26 أغسطس، 2025 صنعاء القديمة أمثال شعبية يمنية

هذا المثل يؤكد على فكرة القضاء والقدر، وأن ما كُتب للإنسان لا مفر منه مهما حاول التهرب. فكأنه يقول: حتى لو اختبأ في مكان دافئ كـ”الحمام”، فإنَّ نصيبه من البرد (الذي يرمز إلى المكتوب) سيُدركه حتمًا.

حاولتُ كثيرًا أن أحلل فكرة القضاء والقدر من منظور عقلاني، حتى وصلتُ إلى رؤية مُبتكرة مستوحاة من عالم الرياضيات والنمذجة العلمية. ففي الرياضيات، نجد نوعين رئيسيين من النماذج:
الأول: النمذجة والتحسين باستخدام نماذج مُعدَّة مسبقًا، حيث تُبنى معادلات مُنظمة تُحدِّد سلوك النظام بدقة، كأن نفترض أن الحياة سلسلة من الأحداث المُتوقَّعة التي يمكن التحكُّم بها.
والثاني: النمذجة والتحسين عبر الاعتماد على العشوائية، حيث تدخل المتغيرات غير المُتوقَّعة (كالاحتمالات أو الضوضاء العشوائية) لاستكشاف حلولٍ لا تُدركها النماذج الثابتة.

والمفاجئ أنَّه في بعض الحالات تكون نتائج النمذجة العشوائية أفضلَ من نتائج النماذج المُعدَّة مسبقًا! فمثلًا، في خوارزميات “البحث العشوائي” أو طرق “مونت كارلو”، تُحقِّق العشوائية كفاءةً أعلى في حل المشكلات المعقَّدة، كتخطيط الشبكات أو تحليل البيانات الضخمة، حيث تفوقت على النماذج المبرمجة بصرامة.

هذا المبادىء الرياضية تفتح باب التأمل: هل يعكس هذا التوازن بين النظام والعشوائية حكمةً أعمق في مفهوم القضاء والقدر؟ فكما أن العقل البشري يعجز عن رؤية الصورة الكاملة للنماذج الرياضية المعقدة، فإن إدراكنا لِـ”المكتوب” محدودٌ بحدود فهمنا، بينما يضمُن النظام الكوني توازنًا دقيقًا بين ما نخطط له وما يُفاجئنا به القدر. فالعشوائية في النماذج الرياضية ليست “فوضى”، بل جزءٌ من نظامٍ أسمى لا ندرك خيوطه، تمامًا كما أن الحوادث التي نراها “مصادفة” في حياتنا قد تكون خيطًا في نسيج قدرٍ محيط.

لذلك، فإن المثل القائل: “الذي نجمه البرد لو يكون في الحمام” ليس مجرد تعبير عن اليأس، بل تذكيرٌ بأنَّ للحياة قانونًا أعمق من أن نحتويه بعقولنا، وأن التواضع أمام هذا الغيب هو بداية الفهم الحقيقي. فالقضاء والقدر ليس نقيض التخطيط، بل هو الإطار الذي تتحرك فيه خططنا، كما أن العشوائية في الرياضيات ليست عدوة المنطق، بل أداةٌ تكشف ما لا تُدركه الصيغ الجامدة. وهكذا، نتعلم أن نوازن بين السعي البشري والرضا بالقضاء، مدركين أن الخير قد يكمن أحيانًا في المفاجآت التي لا نتوقعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *